فى منتصف النهار، منتصف شارع القصر العينى على بعد مرمى حجر من مجلس الشعب، أمس فقط.. زحام سيارات معتاد لا تقطعه إشارة مرور خضراء أو أى لون.. وناس يسيرون فى جماعات يعبرون الشارع يتحدثون معا كأنه اجتماع متحرك.
صبى ودراجة وأرغفة عيش فى الهواء الطلق.. والسماء تمطر تلوثا من سحابتها السوداء.. كيف تبدو الوجوه هكذا: تحمل كل هذا الرضا بالعيشة واللى عايشينها.. الوجوه المطلة من نوافذ سياراتها صفراء ممصوصة مغلوبة، هذا ليس يأسا، هو ما لم يصفه علماء النفس والمفكرون بعد، أطل سائق كفران من نافذة التاكسى الذى يدفع أقساطه دما ودموعا، فقال وقد بصق على الأرض بصقة ذات معنى: ملعون أبو كدة!
قالها فتحمس آخرون فقال رأس يطل من سيارة قديمة: هنموت هنا، قال من قال من مكان ما: أهى كلها موتة.. لما نشوف آخرتها، فتتحرك شفاه من خلف نافذة مغلقة على تكييف هواء: شعب متخلف؟ سمعها جاره فى سيارة موازية فثار فقال: أهو إنت!
قال عابر طريق: هو قال إيه؟ قال متطوع: بيقول شعب متخلف.. إحنا يعنى.
قال ثلاثة فى نفس واحد: واقعة أبوك سودا. تجمع خمسة حول سيارة الرجل المتأفف وضربوا على زجاج النافذة حتى كاد ينكسر تحت قبضتهم فوارب نافذته وصرخ فى خوف واضح: هو فيه إيه؟ قال عشرة لا تعرف كيف اجتمعوا على قلب رجل واحد فى هذا الزمن الصعب: قلت شعب متخلف. إحنا متخلفين يا ابن المتخلف. قال الرجل المتهم بابتسامة صفراء جدا باهتة للغاية: ماقلتش.. الشباك مقفول حد سمعنى. تبرع أحدهم فقال: أنا شفتك بتقولها. ترك المارة مصالحهم وتجمعوا فى زحام دائرى حماسى حول الرجل وسيارته ونافذته المواربة وتداولوا فيما قاله الرجل فى وصف الشعب: شعب متخلف! كانت المناقشة جماعية مذهلة بين جميع الناس، قال أحدهم: ماهو مننا.. لو كنا متخلفين هو سيدنا، فطرح رجل فى بذلة وكرافتة وفى يده شنطة جلد سؤالا غبيا جدا: هو الرجل غلط فى إيه بس؟ قال فتى العجلة والعيش: هو إنت معاه. فلفت نظر الجماعة إلى رجل البذلة والكرافتة الذى يردد نفس العبارة السافلة. فقال مدافعا عن كرافتته: شعب متخلف.. ما إحنا طول النهار بنقولها فى وش بعض ومن ورا بعض.
كان المشهد كاملا كأنه رسم كارتون بقلم رصاص.. ما إن تمضى حتى يمحى من الذاكرة فنرسم غيره من مكان آخر.